فصل: الباب العاشر: في استواء الله على عرشه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


الباب العاشر‏:‏ في استواء الله على عرشه

الاستواء في اللغة‏:‏ يطلق على معان تدور على الكمال والانتهاء، وقد ورد في القرآن على ثلاثة وجوه‏:‏

1‏.‏ 1‏.‏ مطلق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده واستوى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14‏]‏‏.‏ أي كمل‏.‏

2‏.‏ 2‏.‏ ومقيد بـ‏"‏ إلى ‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ أي قصد بإرادة تامة‏.‏

3‏.‏ 3‏.‏ ومقيد بـ ‏"‏ على ‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتستووا على ظهوره‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏ ومعناه حينئذ العلو والاستقرار‏.‏

فاستواء الله على عرشه معناه علوه واستقراره عليه، علوًّا واستقرارًا يليق بجلاله وعظمته، وهو من صفاته الفعلية التي دل عليها الكتاب، والسنة والإجماع، فمن أدلة الكتاب‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ومن أدلة السنة‏:‏ ما رواه الخلال في كتاب السنة بإسناد صحيح على شرط البخاري عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه‏)‏‏.‏

وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني‏:‏ ‏(‏إنه مذكور في كل كتاب أنزله الله على كل نبي‏)‏ اهـ‏.‏

وقد أجمع أهل السنة على أن الله تعالى‏:‏ فوق عرشه، ولم يقل أحد منهم ‏:‏ إنه ليس على العرش، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم ذلك لا نصًّا ولا ظاهرًا‏.‏

وقال رجل للإمام مالك رحمه الله‏:‏ يا أبا عبد الله ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ كيف استوى‏؟‏‏!‏ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ‏(‏العرق‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا‏)‏ ثم أمر به أن يخرج‏.‏

وقد روي نحو هذا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏الاستواء غير مجهول‏"‏ أي غير مجهول المعنى في اللغة فإن معناه العلو والاستقرار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏والكيف غير معقول‏"‏ معناه أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا، وإنما طريق ذلك السمع، ولم يرد السمع بذكر الكيفية فإذا انتفى عنها الدليلان العقلي، والسمعي كانت مجهولة يجب الكف عنها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏الإيمان به واجب‏"‏، معناه‏:‏ أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب، لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه والإيمان به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏والسؤال عنه بدعة‏"‏ معناه أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأنه لم يكن معروفًا في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه‏.‏

وهذا الذي ذكره الإمام مالك رحمه الله في الاستواء ميزان عام لجميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن معناها معلوم لنا، وأما كيفيتها فمجهولة لنا، لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبر عن كيفيتها ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فإذا كنا نثبت ذات الله تعالى‏:‏ من غير تكييف لها، فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ إذا قال لك الجهمي‏:‏ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل‏؟‏ فقل له‏:‏ إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل‏.‏

وقال آخر‏:‏ إذا قال لك الجهمي في صفة من صفات الله ‏:‏ كيف هي‏؟‏

فقل له‏:‏ كيف هو بذاته‏؟‏ فإنه لا يمكن أن يكيف ذاته فقل له‏:‏ إذا كان لا يمكن تكييف ذاته فكذلك لا يمكن تكييف صفاته، لأن الصفات تابعة للموصوف‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إذا كان استواء الله على عرشه بمعنى العلو عليه لزم من ذلك أن يكون أكبر من العرش، أو أصغر، أو مساويًا وهذا يقتضي أن يكون جسمًا، والجسم ممتنع على الله‏.‏

فجوابه أن يقال‏:‏ لا ريب أن الله أكبر من العرش، وأكبر من كل شيء، ولا يلزم على هذا القول شيء من اللوازم الباطلة التي ينزه الله عنها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏إن الجسم ممتنع على الله‏"‏ فجوابه‏:‏ أن الكلام في الجسم وإطلاقه على الله نفيًا أو إثباتًا من البدع التي لم ترد في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف وهو من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى تفصيل‏:‏

فإن أريد بالجسم الشيء المحدث المركب، المفتقر كل جزء منه إلى الآخر، فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم‏.‏

وإن أريد بالجسم ما يقوم بنفسه، ويتصف بما يليق به، فهذا غير ممتنع على الله تعالى‏:‏ فإن الله قائم بنفسه، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به‏.‏

لكن لما كان لفظ الجسم يحتمل ما هو حق، وباطل بالنسبة إلى الله صار إطلاق لفظه نفيًا، أو إثباتًا ممتنعًا على الله‏.‏

وهذه اللوازم التي يذكرها أهل البدع ليتوصلوا بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال على نوعين‏:‏

الأول‏:‏ لوازم صحيحة لا تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه حق يجب القول بها وبيان أنها غير ممتنعة على الله‏.‏

الثاني‏:‏ لوازم فاسدة تنافي ما وجب لله من الكمال، فهذه باطلة يجب نفيها، وأن يبين أنها غير لازمة لنصوص الكتاب، والسنة، لأن الكتاب حق ومعانيها حق، والحق لا يمكن أن يلزم منه باطل أبدًا‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إذا فسرتم استواء الله على عرشه بعلوه عليه، أوهم ذلك أن يكون الله محتاجًا إلى العرش ليقلّه‏.‏

فالجواب‏:‏ أن كل من عرف عظمة الله تعالى‏:‏ وكمال قدرته، وقوته، وغناه فإنه لن يخطر بباله أن يكون الله محتاجًا إلى العرش ليقله، كيف والعرش وغيره من المخلوقات مفتقر إلى الله، ومضطر إليه لا قوام له إلا به، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏؟‏‏!‏

فإن قيل‏:‏ هل يصح تفسير استواء الله على عرشه باستيلائه عليه كما فسره به المعطلة فرارًا من هذه اللوازم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه لا يصح وذلك لوجوه منها‏:‏

1- 1- إن هذه اللوازم إن كانت حقًّا فإنها لا تمنع من تفسير الاستواء بمعناه الحقيقي، وإن كانت باطلًا فإنه لا يمكن أن تكون من لوازم نصوص الكتاب والسنة، ومن ظن أنها لازمة لها فهو ضال‏.‏

2- 2- أن تفسيره بالاستيلاء يلزم عليه لوازم باطلة لا يمكن دفعها كمخالفة إجماع السلف، وجواز أن يقال‏:‏ إن الله مستو على الأرض ونحوها مما ينزه الله عنه، وكون الله تعالى‏:‏ غير مستولٍ على العرش حين خلق السموات والأرض‏.‏

3- 3- أن تفسيره بالاستيلاء غير معروف في اللغة فهو كذب عليها والقرآن نزل بلغة العرب فلا يمكن أن نفسره بما لا يعرفونه في لغتهم‏.‏

4- 4- أن الذين فسروه بالاستيلاء كانوا مقرين بأن هذا معنى مجازي والمعنى المجازي لا يقبل إلا بعد تمام أربعة أمور‏:‏

الأول‏:‏ الدليل الصحيح المتقضي لصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه‏.‏

الثاني‏:‏ احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه من حيث اللغة‏.‏

الثالث‏:‏ احتمال اللفظ للمعنى المجازي الذي ادعاه في ذلك السياق المعين، فإنه لا يلزم من احتمال اللفظ لمعنى من المعاني من حيث الجملة أن يكون محتملًا له في كل سياق، لأن قرائن الألفاظ والأحوال قد تمنع بعض المعاني التي يحتملها اللفظ في الجملة‏.‏

الرابع‏:‏ أن يبين الدليل على أن المراد من المعاني المجازية هو ما ادعاه لأنه يجوز أن يكون المراد غيره فلابد من دليل على التعيين والله أعلم‏.‏